لماذا لا يستطيع الأطباء القادمون من هذه الدولة العمل في بريطانيا؟

رغم أن فرع هيئة الخدمات الصحية الوطنية في شمال شرقي إنجلترا يبذل قصارى جهده للاستفادة من مهارات الأطباء اللاجئين إلى المملكة المتحدة، فإن بعضهم من المدربين جيدا – والقادمين من دولة بعينها – لا يزالون مضطرين للعمل في المصانع أو في تسليم فطائر البيتزا، مع أنهم يتوقون لممارسة تخصصهم، كما تقول إيما جين كيربي من “بي بي سي” في تقريرها التالي.

لم يكن د. يماني يرغب في إجراء هذه المقابلة، التي تمت في مقهى صغير غير بعيد عن محطة ميدلزبره للقطارات. فخلال الدقائق الخمس عشرة الأولى منها – والتي عكفنا فيها على احتساء أقداح من القهوة الإثيوبية – كان يترك لأصدقائه وزملائه مهمة الحديث، مُكتفيا بالإجابة عن أسئلتي بأدب بالغ وتحفظ واضح، إذ كان قلقا من أن يظن أحد أنه يتذمر أو يشكو نصيبه وقدره.

وبعد محاولات لحمله على التخلي عن تحفظه هذا، تحرك في مقعده بعدم راحة ظاهرة، وقال باقتضاب: “ربما تكون الأمور صعبة قليلا في بعض الأحيان”.

في الحقيقة، تتسم الأمور بتعقيد أكبر بكثير، مما يفصح عنه هذا الطبيب البالغ من العمر 35 عاما والقادم من وطنه إريتريا هربا إثر تلقيه تهديدات بالمساس بحياته من جانب السلطات الحاكمة، بعدما وجه انتقادات ضمنية للخدمات الصحية المُقدمة في البلاد خلال اجتماع عام عُقِدَ عام 2012. وانتهى بالرجل المطاف إلى مدينة برمنغهام، التي حصل فيها على حق اللجوء السياسي.

خلال لقائنا، قال لي يماني بصوت خافت: “بقدر شكري للمملكة المتحدة لكونها ملاذا آمنا لي ولأنها منحتني اللجوء، بقدر ما يراودني شعور بأن الأمر غير مكتمل، لأن اللاجئ لا يريد أن يصبح عبئا على المجتمع، الذي أعلم أنه بوسعي تقديم أكثر مما أقدمه له حاليا”.

فهذا الطبيب المؤهل لممارسة المهنة – والذي استغرق خلال لقائنا في مطالعة سِفْر ضخم في علم العقاقير – لم يُسمح له منذ وصوله إلى بريطانيا بالعمل في مجاله، وهو ما جعل أماكن عمله تقتصر على أحد المصانع، وفي مجال تقديم خدمات الرعاية، فضلا عن تطوعه في جمعية خيرية تُعنى بشؤون اللاجئين.

بطبيعة الحال، لم يكن هذا هو المصير الذي توقعه يماني لنفسه، عندما بدأ دراسته ضمن طلاب ثاني دفعة التحقت بكلية أوروتا للطب وطب الأسنان، التي تأسست في العاصمة الإريترية أسمرة عام 2004، بمساعدة من أكاديميين كوبيين.

  ولمدة ثماني سنوات، عكف هذا الشاب على دراسة تخصصات متنوعة؛ امتدت من علم الأعصاب إلى الجراحة، وخضع لاختبارات روقبت من الخارج من جانب أساتذة جامعيين أمريكيين وسويسريين وسودانيين.

وحينما التقينا، قال لي يماني بلهجة متواضعة إنه واثق “ودون مبالغة” في أن مستوى الدراسة في “أوروتا” يتسم بالدقة والصرامة، اللتين تسودان أي كلية مناظرة لها لدراسة الطب في بريطانيا. كما أكد لي الشاب – الذي يحتفظ بسجلات تخص كل فصل دراسي قضاه في كليته – أنه كان متميزا في دراسته، وهو ما تعززه التقارير التي تُقيم أداءه الدراسي، التي تشير إلى أنه اجتاز كل اختباراته تقريبا بتقدير امتياز.

بريطانيا: “مكافحة التطرف” تطال العاملين بالمستشفيات وقطاع الصحة مهارات الاطباء اللاجئين لا يستفاد منها في بريطانيا لكن ذلك ليس كافيا بالنسبة للمجلس الطبي العام في بريطانيا، وهو الجهة المسؤولة عن تنظيم عمل الأطباء في البلاد، وتسجيل أسماء من يُسمح لهم منهم بممارسة المهنة في أراضيها. فالمجلس يحتاج إلى أن تؤكد له السلطات الإريترية والقائمون على كلية أوروتا، صحة ما يقوله يماني عن أنه حاصل على المؤهلات الكفيلة، بتمكينه من العمل طبيبا في المملكة المتحدة. غير أن المشكلة أن إريتريا – كدولة سلطوية – لن تعترف بمؤهلات مواطن فر إلى خارج أراضيها.

اريتريا هي كوريا الشمالية القارة الأفريقية، ولن تتعاون مع المجلس الطبي العام في بريطانيا” هكذا يقول بيني أرايا من جمعية “الاستثمار في البشر والثقافة” الخيرية، التي تتخذ من ميدلزبره مقرا لها وفي هذا الشأن يقول بيني أرايا، وهو إريتري يعمل في جمعية خيرية تحمل اسم “الاستثمار في البشر والثقافة”، وتتخذ من مدينة ميدلزبره مقرا لها : “بالطبع لن يستجيبوا ولن يفصحوا عن المعلومات المطلوبة”.

وتساعد هذه الجمعية هيئة الخدمات الصحية الوطنية، في بعض مناطق إنجلترا، على الاستفادة من الأطباء اللاجئين وتشغيلهم في مجال تخصصهم.

ويعتبر أرايا أن رفض السلطات الإريترية التعاون، يمثل إحدى وسائلها للتحكم في حياة اللاجئين “وجعلها صعبة، وهو ما يحول دون تحقيقهم النجاح إذا غادروا وطنهم”.

  ويضيف: “إريتريا ليست صديقة للغرب، بل إنها كوريا الشمالية القارة الأفريقية، فهي دولة ديكتاتورية وذات طابع عسكري بشكل كبير، ولن تتعاون مع المجلس الطبي العام”.

ومن المفارقات المريرة، أن السبب الذي قاد يماني لاتخاذ قرار بترك برمنغهام والانتقال للعيش في ميدلزبره، تمثل في مقال نشرته “بي بي سي”، عن خطة طموحة وضعها بيني أرايا، بالتعاون مع مؤسسة تابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية في مقاطعة درّم الإنجليزية.

وساعده على اتخاذ هذه الخطوة كذلك، أنه عَلِمَ من قراءاته أن المنطقة التي قرر الاستقرار فيها، تعاني من نقص حاد في الأطباء. وفي بادئ الأمر، قُبِل على الفور في الخطة التي تحدثنا عنها في السطور السابقة، واجتاز اختبار اللغة الإنجليزية شديد الصعوبة من المرة الأولى وهو أمر غير معتاد، وبدرجات مرتفعة كذلك.

وأصبحت الخطوة التالية بالنسبة له تتمثل في الخضوع لاختبارين طبيين يلزم اجتيازهما لممارسة المهنة. لكنه فوجئ عندما بدأ مراجعة دروسه تحضيرا لخوض الاختبارين، بمنعه من ذلك من جانب المجلس الطبي العام.

ويحول التهذيب المفرط الذي يتحلى به هذا الشاب، دون أن يوجه انتقادات لموقف المجلس، مُكتفيا بالإعراب عن أمله في أن يجد مسؤولوه طريقة لتجاوز تلك المشكلة. ويقول بدبلوماسية: “أنا ممتن للغاية لجهودهم، لكنني أعتقد في بعض الأحيان أن بوسعهم بذل جهود أكبر قليلا؟”.

غير أن المتعاطفين مع قضيته أكثر صراحة منه في التعبير عن موقفهم. من بينهم، الدكتورة مارغريت هينمان، الطبيبة المتقاعدة التي كانت تعمل ممارسا عاما في المنطقة التي يعيش فيها يماني حاليا، وهي تعكف الآن على حشد التأييد له من جهة، ومساعدته على أن يواصل دراسته مُعتمدا على نفسه من جهة أخرى.

وتقول هينمان: “الأمر محبط بشدة. أتفهم تماما أن الأهمية القصوى ينبغي أن تُولى لسلامة المرضى. لكن بوسعنا بالتأكيد إيجاد حل لتصحيح هذا الوضع”.

وتضيف: “لدينا هنا شاب تجاوز الكثير والكثير من الصعوبات، وهو طبيب على أهبة الاستعداد للعمل، ويريد ذلك ويرغب في أن يجعل هذه المنطقة موطنا له، كما أن لدينا في الوقت نفسه الكثير من الوظائف الشاغرة التي تحتاج لأطباء هنا”.

وقد ذكرّتني هذه السيدة بنجاح الخطة التي تحدثنا عنها من قبل، مُشيرة إلى أنه جرى في إطارها، توظيف أربعة من الأطباء اللاجئين بدوام كامل في هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وذلك في وقت يستعد فيه خمسة آخرون منهم لتسجيل أسمائهم للعمل، بالتزامن مع خوض عدد آخر الاختبارات الطبية اللازمة لممارسة المهنة.

وعقبت على ذلك بالقول: “ما من سبب للاعتقاد بأن د. يماني يحظى بمؤهلات أقل من أي شخص آخر من هؤلاء”.

  وتضيف: “لدينا معلومات من العميد السابق لشؤون الدراسات الطبية في كلية أوروتا للطب بشأن مؤهلات يماني، كما أننا نعلم المنهج الذي درسه. ومن المحبط للغاية، أن بمقدور دول أخرى في الاتحاد الأوروبي مثل النمسا والسويد – لديها قواعد إرشادية أثق في أنها صارمة بقدر القواعد السارية لدينا – قبول الأوراق ذاتها التي قدمها يماني، وإتاحة الفرصة للأطباء الإريتريين لممارسة المهنة”.

ومن بين الأطباء، الذين حصلوا على اللجوء السياسي إلى النمسا ويعملون فيها في تخصصهم الآن بالفعل، طبيب يُدعى ساهل، وهو صديق مقرب من يماني، وكان زميلا له في صفه خلال الدراسة كذلك، بل وفر من إريتريا بشكل متزامن معه تقريبا.

لكن على العكس من يماني، قبلت السلطات النمساوية الأوراق التي قدمها ساهل، وتؤكد صحة المؤهلات الدراسية التي حصل عليها، وهو ما فتح له الباب لأن يخضع لاختبارات في اللغة الألمانية ولتدريب طبي صارم كذلك، ما سمح له بالعمل كطبيب بدوام كامل في مستشفى بجنوب شرقي النمسا، حيث يأمل في أن يتخصص في الطب الباطني.

وأدى الانشغال الشديد لهذا الطبيب الإريتري، إلى أن نضطر للانتظار بضعة أسابيع، إلى أن نجحنا في ترتيب إجراء مقابلة معه عبر تطبيق “سكايب”.

خلال المقابلة، اعتبر ساهل أن ما يحدث مع صديقه في بريطانيا “غير عادل”. وقال إن رأيه هذا يعود إلى أنه يتذكر كم كان د. يماني “طبيبا مقتدرا للغاية يعمل بجد ويهتم بعمله أيضا”.

وأضاف: “أنا واثق من قدرته على أن يُظهر لهم في بريطانيا مدى ما يتمتع به من كفاءة، إذا كان بوسعهم إعطاؤه الفرصة لذلك”.

ويتواصل الصديقان مرتين على الأقل أسبوعيا. ومن خلال الاستماع لإحدى المحادثات التي جرت بينهما، كان مؤلما ما لمسناه، من نهم شديد لدى يماني، للتعرف على تفاصيل الحالات التي يفحصها صديقه اللاجئ إلى النمسا، وكذلك مدى حرص الأخير، على إجابة أسئلة الطبيب المقيم في بريطانيا، بضبط نفس لبق.

ويبرر ساهل ذلك قائلا: “أنا أعمل وهو لا. رغم أن لدينا الوثائق نفسها، لا أكثر ولا أقل”.

ومن جهته، يقول بيني أرايا إن حالة يماني ليست الوحيدة، مشيرا إلى أن هناك ما لا يقل عن أربعة أطباء إريتريين مؤهلين آخرين يقيمون حاليا في بريطانيا، ويحاولون باستماتة العمل هناك في تخصصهم. ولعجزهم عن ذلك، اضطروا – كما يقول – للعمل في شركات توصيل البضائع، لحساب بعض المصانع أو المطاعم التي تُعّد فطائر البيتزا.

أما جين دوركين، المدير المساعد لقسم تسجيل الأطباء بالمجلس الطبي العام، فقد ردت عليّ بتنهيدة، حين حدثتها عن مسألة إهدار هذه الطاقات البشرية غير المستغلة، وذكرّتني بأن “الاهتمام الأول للمجلس يتمثل في حماية المرضى، والتيقن من أن كل الأطباء الذين يُسمح لهم بالتسجيل للعمل في بريطانيا، لديهم المهارات المطلوبة لممارسة المهنة”.

وخلال حديثي معها، بدا عليها إحباط لا يقل عن ذاك الذي يشعر به المتعاطفون مع يماني، خاصة حينما استعرضت الجهود التي بذلها المجلس الطبي للتواصل مع السلطات الإريترية، والصمت المُطبق الذي قوبلت به هذه المحاولات.

وعندما ذكّرتها بأن دولا أوروبية أخرى قبلت من أطباء آخرين، الأوراق نفسها التي قدمها يماني كدليل على حصوله على المؤهلات اللازمة للعمل طبيبا، أقرت دوركين بأن هذه “نقطة وجيهة”، لكنها قالت في الوقت ذاته، إنها لا تستطيع التعقيب على قرارات تتخذها الدول الأخرى.

  وأضافت: “لا نريد وضع حواجز، لكن القانون يلزمنا بالتحقق من صحة المؤهلات”، التي يقول هؤلاء الأشخاص إنهم حصلوا عليها.

لكن هل من الواقعي أن يتوقع المرء أن يفر لاجئ سياسي من وطنه، وهو يحمل كل الوثائق التي تؤكد حصوله على مؤهلاته الدراسية، وأن تكون هذه الأوراق مختومة ومُصدّقاً عليها من جانب النظام الاستبدادي نفسه الذي فر منه؟

في إجابتها على هذا السؤال، أقرت دوركين بأن حصول المجلس الطبي العام على الأوراق التي يطلبها، أمر في حكم المستحيل تقريبا.

وأعقبت ذلك بالإعلان – وبشكل مفاجئ – عن أن المجلس قرر أن حالة الأطباء الإريتريين استثنائية حقا، وأن ذلك يبرر السماح لهم بالخضوع للاختبارين الطبيين، اللذين يُحظر عليهم التقدم لهما في الوقت الحاضر. وعندما طلبت منها إعادة ما قالته للتحقق من أنني فهمتها بشكل صحيح، قالت لي والابتسامة تشع من صوتها: “أجل، سنسمح لهم بالخضوع لهذين الاختبارين”.

لكن الصمت ساد لهنيهة، عندما سألتها عما إذا كان هذا يعني، أن اجتياز يماني للاختبارين – كما يتوقع أن يفعل – سيسمح له تلقائيا بتسجيل اسمه كطبيب ومن ثم تمكينه من التقدم للحصول على إحدى وظائف هيئة الخدمات الصحية الوطنية.

وقالت دوركين بعد ذلك: “سيثبت اجتيازه للاختبارين أن لديه المعرفة الكافية لذلك. لكننا سنظل بحاجة للتحقق من مؤهلاته الأساسية التي تجيز له ممارسة مهنة الطب. ينبغي علينا العمل وفقا للإطار القانوني القائم في المملكة المتحدة”.

وبلهجة بدت اعتذارية، أضافت هذه السيدة: “أعلم أن الأمر يبدو انصياعا مني للقوانين بغض النظر عن مدى منطقية ذلك. لكن بوسعه (يماني) مواصلة تدريبه، بالتزامن مع ما سنقوم به من تجربة كل السبل” التي يمكننا من خلالها الحصول على الأوراق المطلوبة.

وبرغم كل شيء، شكّل ما أعلنته دوركين قفزة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للأطباء الإريتريين، وسببا كافيا لأن يقرر “يماني” والمتعاطفون معه في ميدلزبره – مثل بيني أرايا ومارغريت هينمان – شراء كعكة للاحتفال.

وفي تعقيبه على هذا التطور، قال يماني: “أنا سعيد بشدة، وكذلك زملائي جميعا. نحن نتحرك في الاتجاه الصحيح”. أما أرايا فقد وعد الطبيب الشاب، بأن جمعيته الخيرية ستعمل بلا كلل لمساعدة المجلس الطبي العام، على الحصول على الأوراق التي يحتاج إليها عبر طرف ثالث، من أجل استيفاء المتطلبات التي يوجبها القانون البريطاني.

وأشار إلى أن ذلك سيتم خلال الفترة التي يحتاجها يماني للاستذكار لخوض الاختبارين الطبيين، وهو الأمر الذي سيستغرق إكماله ما لا يقل عن عام على الأرجح.

وهكذا فإذا سارت الأمور بحسب ما يشتهي الطبيب الإريتري – الذي كان يحلم بممارسة هذه المهنة منذ أن كان في السادسة من عمره – فربما سيكون بوسعه تحقيق حلمه هذا في وقت ما من عام 2020، وأن يتوجه مع بيني أرايا إلى مستشفى “نورث تييز” البريطاني لبدء العمل هناك.


Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *